سورة المائدة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان حكمِ نوع من أنواع القتلِ وما يتعلق به من الفساد بأخذ المالِ ونظائرِه وتعيينِ موجبِه العاجلِ والآجلِ إثرَ بيانِ عظمِ شأن القتلِ بغير حق، وأُدرج فيه بيانُ ما أشير إليه إجمالاً من الفساد المبيحِ للقتل، قيل: أي يحاربون رسولَه، وذكرُ الله تعالى للتمهيد والتنبيه على رفعة محلّه عنده عز وجل ومحاربةُ أهلِ شريعتِه وسالكي طريقتِه من المسلمين محاربةٌ له عليه السلام فيعم الحكمُ من يحاربهم ولو بعد أعصارٍ بطريق العبارة دون الدِلالةِ والقياس، لأن ورود النصِّ ليس بطريق خطابِ المشافهةِ حتى يختصَّ حكمُه بالمكلفين عند النزول فيُحتاجَ في تعميمه لغيرهم إلى دليل آخرَ، وقيل: جعلُ محاربة المسلمين محاربةً لله تعالى ورسولِه تعظيماً لهم والمعنى يحاربون أولياءَهما، وأصل الحربِ السلْب والمرادُ هاهنا قطعُ الطريق، وقيل: المكابرة بطريق اللصوصية وإن كانت في مِصْرٍ {وَيَسْعَوْنَ فِى الارض} عطف على يحاربون، والجارُّ والمجرور متعلقٌ به وقوله تعالى: {فَسَاداً} إما مصدرٌ وقع موقِعَ الحالِ من فاعل يسعون أي مفسدين أو مفعول له أي للفساد أو مصدر مؤكد ليسعون لأنه في معنى يفسدون على أنه مصدرٌ من أفسد بحذف الزوائد أو اسمُ مصدر.
قيل: نزلت الآية في قوم هلال بنِ عويمرٍ الأسلمي وكان وادَعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ألا يُعينَه ولا يُعين عليه، ومن أتاه من المسلمين فهو آمن لا يُهاج، ومن مر بهلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج، فمر قومٌ من بني كنانةَ يريدون الإسلام بناس من قوم هلالٍ ولم يكن هلال يومئذ شاهداً فقطعوا عليهم وقتلوهم وأخذوا أموالهم، وقيل: نزلت في العُرَنيين وقصتُهم مشهورة، وقيل: في قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ فنقضوا العهدَ وقطعوا السبيل، وأفسدوا في الأرض، ولما كانت المحاربةُ والفسادُ على مراتبَ متفاوتةٍ ووجوه شتى من القتل بدون أخذِ المالِ، ومن القتل مع أخذه، وأخذِه بدون القتل، ومن الإخافة بدون قتلٍ وأخذ، شُرعت لكل مرتبةٍ من تلك المراتب عقوبةٌ معينة بطريق التوزيعِ فقيل: {أَن يُقَتَّلُوا} أي حداً من غير صلبٍ إن أفردوا القتلَ، ولو عفا الأولياءُ لا يلتفت إلى ذلك، لأنه حقُّ الشرعِ، ولا فرق بين أن يكون القتلُ بآلة جارحةٍ أو لا {أَوْ يُصَلَّبُواْ} أي مع القتل إن جمعوا بين القتلِ والأخذِ بأن يصلّبوا أحياءً وتُبعَجَ بطونُهم برمح إلى أن يموتوا، وفي ظاهر الرواية أن الإمام مخير إن شاء اكتفى بذلك، وإن شاء قطع أيديَهم وأرجلَهم من خلاف وقتلهم وصلبهم، وصيغةُ التفعيل في الفعلين للتكثير وقرئ بالتخفيف فيهما {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خلاف} أي أيديهم اليمنى وأرجلُهم اليسرى إن اقتصروا على أخذ المالِ من مسلم أو ذمي، وكان المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلاًّ منهم عشرةُ دراهمَ أو ما يساويها قيمتُه، أما قطعُ أيديهم فلأخذ المالِ وأما قطعُ أرجلهم فلإخافة الطريقِ بتفويت أمْنِه {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الارض} إن لم يفعلوا غيرَ الإخافةِ والسعي للفساد، والمرادُ بالنفي عندنا هو الحبسُ فإنه نفيٌ عن وجه الأرضِ لدفع شرِّهم عن أهلها ويُعزّرون أيضاً لمباشرتهم منكر الإخافة وإزالة الأمن، وعند الشافعي رضي الله عنه النفي من بلد إلى بلد لا يزال يُطلب وهو هاربٌ فزعاً، وقيل: هو النفي عن بلده فقط، وكانوا ينفونهم إلى دَهْلَك وهو بلد في أقصى تِهامة، وناصع وهو بلد من بلاد الحبشة.
{ذلك} أي ما فصل من الأحكام والأجزية، قيل: هو مبتدأٌ وقوله تعالى: {لَهُمْ خِزْىٌ} جملةٌ من خبر مقدمٍ على المبتدأ وقوله تعالى: {فِى الدنيا} متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لخزيٌ أو متعلق بخزيٌ على الظرفية، والجملةُ في محل الرفع على أنها خبر لذلك، وقيل: خزيٌ خبرٌ لذلك و{لهم} متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من خزي، لأنه في الأصل صفةٌ له، فلما قُدّم انتصب حالاً، وفي الدنيا إما صفةٌ لخزيٌ أو متعلقٌ به على ما مر، والخزيُ الذلُّ والفضيحة {وَلَهُمْ فِى الاخرة} غير هذا {عَذَابٌ عظِيمٌ} لا يقادَرُ قدرُه لغاية عِظمِ جنايتِهم فقوله تعالى: {لَهُمْ} خبرٌ مقدم و{عَذَابِ} مبتدأٌ مؤخرٌ و{فِى الاخرة} متعلق بمحذوف وقع حالاً من عذاب، لأنه في الأصل صفةٌ له فلما قدم انتصب حالاً أي كائناً في الآخرة.


{إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} استثناءٌ مخصوصٌ بما هو من حقوق الله عز وجل كما ينبىء عنه قوله تعالى: {فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أما ما هو من حقوق الأولياءِ من القصاص ونحوِه فإليهم ذلك إن شاءوا عفَوْا وإن أحبوا استوفَوْا، وإنما يسقطُ بالتوبة وجوبُ استيفائِه لا جوازُه، وعن علي رضي الله عنه أن الحرثَ بن بدر جاءه تائباً بعد ما كان يقطع الطريقَ فقبِلَ توبته ودرأ عنه العقوبة.
{مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله} لما ذُكِرَ عِظَمُ شأنِ القتلِ والفساد وبيَّن حُكمَهما وأُشير في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب من جنايته أُمِرَ المؤمنون بأن يتقوه تعالى في كل ما يأتون وما يذرون بترك ما يجبُ اتقاؤُه من المعاصي التي من جُملتها ما ذُكر من القتل والفساد، وبفعل الطاعات التي من زُمرتها السعيُ في إحياء النفوس ودفعِ الفساد والمسارعة إلى التوبة والاستغفار {وابتغوا} أي اطلُبوا لأنفسكم {إِلَيْهِ} أي إلى ثوابه والزلفى منه {الوسيلة} هي فعيلةٌ بمعنى ما يُتوسّل به ويُتقرَّب إلى الله تعالى من فعل الطاعات وتركِ المعاصي من وسَّل إلى كذا أي تقرّب إليه بشيء، و{إليه} متعلقٌ بها قُدّم عليها للاهتمام به، وليست بمصدرٍ حتى لا تعملَ فيما قبلها، ولعل المراد بها الاتقاءُ المأمورُ به فإنه مَلاكُ الأمر كلِّه كما أشير إليه، وذريعةٌ لنيل كلِّ خير ومنجاةٌ من كل ضَيْر، فالجملة حينئذ جاريةٌ مما قبلها مجرى البيانِ والتأكيد. أو مطلقُ الوسيلة وهو داخل فيها دخولاً أولياً. وقيل: الجملةُ الأولى أمرٌ بترك المعاصي والثانية أمرٌ بفعل الطاعات، وحيث كان في كلَ من ترك المعاصي المشتهاةِ للنفس وفعلِ الطاعات المكروهة لها كُلفة ومشقة عقّب الأمرَ بهما بقوله تعالى: {وجاهدوا فِى سَبِيلِهِ} بمحاربة أعدائِه البارزةِ والكامنة {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بنيلِ مرضاتِه والفوزِ بكراماته.


{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأوامر السابقة وترغيبِ المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز وجل قبل انقضاءِ أوانِه ببيان استحالةِ توسُّلِ الكفار يومَ القيامة بأقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلاً عن نيلِ الثواب.
{لَوْ أَنَّ لَهُمْ} أي لكل واحدٍ منهم كما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} الخ، لا لجميعهم إذ ليس في ذلك هذه المرتبةُ من تهويل الأمر وتفظيعِ الحال {مَّا فِى الارض} أي من أصناف أموالِها وذخائرِها وسائرِ منافعِها قاطبةً وهو اسمُ أن ولهم خبرُها ومحلُّها الرفعُ بلا خلاف، خلا أنه عند سيبويه رفعٌ على الابتداء ولا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتِها على المُسنَدِ والمُسنَد إليه، وقد اختصَّتْ من بين سائر ما يُؤوّل بالاسم بالوقوع بعد لو، وقيل: الخبرُ محذوفٌ ثم قيل: يُقدّر مقدّماً، أي لو ثابتٌ كونُ ما في الأرض لهم. وقيل: يقدر مؤخراً أي لو كونُ ما في الأرض لهم ثابتٌ، وعند المبرِّد والزجّاج والكوفيين رُفعَ على الفاعلية والفعلُ مقدرٌ بعد لو أي لو ثبَتَ أن لهم ما في الأرض. وقوله تعالى: {جَمِيعاً} توكيد للموصول أو حال منه {وَمِثْلَهُ} بالنصب عطفٌ عليه وقوله تعالى: {مَعَهُ} ظرفٌ وقع حالاً من المعطوفِ، والضميرُ راجعٌ إلى الموصول وفائدتُه التصريحُ بفرض كينونَتِهما لهم بطريق المعيّة لا بطريق التعاقُب تحقيقاً لكمال فظاعةِ الأمر مع ما فيه من نوع إشعارٍ بكونهما شيئاً واحداً وتمهيداً لإفراد الضمير الراجع إليهما، واللام في قوله تعالى: {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} متعلقةٌ بما تعلق به خبرُ أن، أعني الاستقرارَ المقدَّرَ في {لهم} وبالخبر المقدّر عند من يرى تقديرَ الخبرِ مقدماً أو مؤخراً، وبالفعل المقدّر بعد لو على رأي المبرِّد ومن نحا نحوه، ولا ريب في أن مدارَ الافتداءِ بما ذُكر هو كونُه لهم لا ثبوتُ كونِه لهم وإن كان مستلزِماً له، والباء في {به} متعلقةٌ بالافتداء، والضميرُ راجعٌ إلى الموصول و{مثله} معاً، وتوحيدُه إما لما أشير إليه، وإما لإجرائه مُجرى اسمِ الإشارة كأنه قيل بذلك كما في قوله:
كأنه في الجلد توليعُ البَهَق ***
أي كأن ذلك، وقيل: هو راجعٌ إلى الموصول، والعائدُ إلى المعطوف أعني {مثله} محذوفٌ، كما حُذف الخبرُ من قيارٌ في قوله:
فإني وقيارٌ بها لغريبُ ***
أي وقيار أيضاً غريبُ، وقد جوَّزَ أن يكون نُصب و{مثلَه} على أنه مفعولٌ معه ناصِبُه الفعلُ المقدر بعد لو تفريعاً على مذهب المبرد، ومن رأى رأيَه، وأنت خبيرٌ بأنه يؤدِّي إلى كونِ الرافعِ للفاعل غيرَ الناصب للمفعول معه لأن المعنى على اعتبارِ المعيةِ بين {ما في الأرض ومثله} في الكينونة لهم، لا في ثبوت تلك الكينونةِ وتحقُقِها، ولا مَساغَ لجعل ناصبِه الاستقرارَ المقدرَ في {لهم}، لِما أن سيبويهِ قد نصَّ على أن اسمَ الإشارةِ وحرفَ الجر المتضمِّنَ للاستقرار لا يعمَلانِ في المفعول معه وأن قوله: هذا لك وأباك قبيحٌ وإن جوزه بعضُ النحاة في الظروف وحرف الجر، وقولُه تعالى: {مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة} متعلقٌ بالافتداء أيضاً، أي لو أن {ما في الأرض مثله} ثابتٌ لهم ليجعلوه فديةً لأنفسِهم من العذاب الواقعِ يومئذ.
{مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ} ذلك، وهو جواب لو وترتيبُه على كون ذلك لهم لأجل افتدائِهم به من غير ذكرِ الافتداءِ بأن يقال: وافتدَوْا به مع أن الردَّ والقَبولَ إنما يترتب عليه لا على مباديه، للإيذانِ بأنه أمرٌ محقَّقُ الوقوع غنيٌّ عن الذكر، وإنما المحتاجُ إلى الفَرْض قدرتُهم على ما ذُكر أو للمبالغةِ في تحقيق الردِّ وتخييلِ أنه وقع قبل الافتداءِ على منهاج ما في قوله تعالى: {قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُك فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه} حيث لم يقل: فأتى به فلما رآه الخ، وما في قوله تعالى: {وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} من غير ذكر خروجِه عليه السلام عليهن ورؤيتِهن له. والجملة الامتناعية بحالها خبرُ إن الذين كفروا، والمرادُ تمثيلُ لزوم العذاب لهم واستحالةُ نجاتِهم منه بوجهٍ من الوجوه المحققةِ والمفروضة. وعن النبي عليه الصلاة والسلام: «يقالُ للكافر أرأيت لو كان لك ملءُ الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سُئلتَ أيسرَ من ذلك وهو كلمة الشهادة» وقوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تصريحٌ بما أشير إليه بعدم قَبول فِديتِهم لزيادة تقريرِه وبيانِ هَوْلِه وشدّتِه، قيل: محلُّه النصب على الحالية وقيل: الرفعُ عطفاً على خبر إِن، وقيل: عطفٌ على إن الذين فلا محلَّ له كالمعطوف عليه.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12